كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



وإن الإنسان ليقف متململاً أمام هذه الصورة الفظيعة لتلك الفترة الأليمة في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأمام تلك الآلام العميقة اللاذعة لعائشة زوجه المقربة. وهي فتاة صغيرة في نحو السادسة عشرة. تلك السن المليئة بالحساسية المرهفة والرفرفة الشفيفة.
فها هي ذي عائشة الطيبة الطاهرة. ها هي ذي في براءتها ووضاءة ضميرها، ونظافة تصوراتها، ها هي ذي ترمى في أعز ما تعتز به. ترمى في شرفها. وهي ابنة الصديق الناشئة في العش الطاهر الرفيع. وترمى في أمانتها. وهي زوج محمد بن عبد الله من ذروة بني هاشم. وترمى في وفائها. وهي الحبيبة المدللة القريبة من ذلك القلب الكبير.. ثم ترمى في إيمانها. وهي المسلمة الناشئة في حجر الإسلام، من أول يوم تفتحت عيناها فيه على الحياة. وهي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ها هي ذي ترمى، وهي بريئة غارة غافلة، لا تحتاط لشيء، ولا تتوقع شيئاً؛ فلا تجد ما يبرئها إلا أن ترجو في جناب الله، وتترقب أن يرى رسول الله رؤيا، تبرئها مما رميت به. ولكن الوحي يتلبث، لحكمة يريدها الله، شهراً كاملاً؛ وهي في مثل هذا العذاب.
ويا لله لها وهي تفاجأ بالنبأ من أم مسطح. وهي مهدودة من المرض، فتعاودها الحمى؛ وهي تقول لأمها في أسى: سبحان الله! وقد تحدث الناس بهذا؟ وفي رواية أخرى تسال: وقد علم به أبي؟ فتجيب أمها: نعم! فتقول: ورسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فتجيبها أمها كذلك: نعم!
ويا لله لها ورسول الله صلى الله عليه وسلم نبيها الذي تؤمن به ورجلها الذي تحبه، يقول لها: «أما بعد فإنه بلغني عنك كذا وكذا؛ فإن كنت بريئة فسيبرئك الله تعالى، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله تعالى وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه».
فتعلم أنه شاك فيها، لا يستيقن من طهارتها، ولا يقضي في تهمتها. وربه لم يخبره بعد، ولم يكشف له عن براءتها التي تعلمها ولكن لا تملك إثباتها؛ فتمسي وتصبح وهي متهمة في ذلك القلب الكبير الذي أحبها، وأحلها في سويدائه!
وها هو ذا أبو بكر الصديق في وقاره وحساسيته وطيب نفسه يلذعه الألم، وهو يرمى في عرضه. في ابنته زوج محمد صاحبه الذي يحبه ويطمئن إليه، ونبيه الذي يؤمن به ويصدقه تصديق القلب المتصل، لا يطلب دليلاً من خارجه.. وإذا الألم يفيض على لسانه، وهو الصابر المحتسب القوي على الألم، فيقول: والله ما رمينا بهذا في جاهلية. أفنرضى به في الإسلام؟ وهي كلمة تحمل من المرارة ما تحمل. حتى إذا قالت له ابنته المريضة المعذبة: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في مرارة هامدة: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم!
وأم رومان زوج الصديق رضي الله عنهما وهي تتماسك أمام ابنتها المفجوعة في كل شيء. المريضة التي تبكي حتى تظن أن البكاء فالق كبدها. فتقول لها: يا بنية هوني على نفسك الشأن، فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرن عليها.. ولكن هذا التماسك يتزايل وعائشة تقول لها: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقول كما قال زوجها من قبل: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم!
والرجل المسلم الطيب الطاهر المجاهد في سبيل الله صفوان بن المعطل. وهو يرمى بخيانة نبيه في زوجه. فيرمى بذلك في إسلامه، وفي أمانته، وفي شرفه، وفي حميته. وفي كل ما يعتز به صحابي، وهو من ذلك كله بريء. وهو يفاجأ بالاتهام الظالم وقلبه بريء من تصوره، فيقول: سبحان الله! والله ما كشفت كتف أنثى قط. ويعلم أن حسان بن ثابت يروج لهذا الإفك عنه، فلا يملك نفسه أن يضربه بالسيف على رأسه ضربة تكاد تودي به. ودافعه إلى رفع سيفه على امرئ مسلم، وهو منهي عنه، أن الألم قد تجاوز طاقته، فلم يملك زمام نفسه الجريح!
ثم ها هو ذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو رسول الله، وهو في الذروة من بني هاشم.. ها هو ذا يرمى في بيته. وفي من؟ في عائشة التي حلت من قلبه في مكان الابنة والزوجة والحبيبة. وها هو ذا يرمى في طهارة فراشه، وهو الطاهر الذي تفيض منه الطهارة. وها هو ذا يرمى في صيانة حرمته، وهو القائم على الحرمات في أمته.
وها هو ذا يرمى في حياطة ربه له، وهو الرسول المعصوم من كل سوء.
ها هو ذا صلى الله عليه وسلم يرمى في كل شيء حين يرمى في عائشة رضي الله عنها يرمى في فراشه وعرضه، وقلبه ورسالته. يرمى في كل ما يعتز به عربي، وكل ما يعتز به نبي.. ها هو ذا يرمى في هذا كله؛ ويتحدث الناس به في المدينة شهراً كاملاً، فلا يملك أن يضع لهذا كله حداً. والله يريد لحكمة يراها أن يدع هذا الأمر شهراً كاملاً لا يبين فيه بياناً. ومحمد الإنسان يعاني ما يعانية الإنسان في هذا الموقف الأليم. يعاني من العار، ويعاني فجيعة القلب؛ ويعاني فوق ذلك الوحشة المؤرقة. الوحشة من نور الله الذي اعتاد أن ينير له الطريق.. والشك يعمل في قلبه مع وجود القرائن الكثيرة على براءة أهله، ولكنه لا يطمئن نهائياً إلى هذه القرائن والفرية تفوح في المدينة، وقلبه الإنساني المحب لزوجه الصغيرة يتعذب بالشك؛ فلا يملك أن يطرد الشك. لأنه في النهاية بشر، ينفعل في هذا انفعالات البشر. وزوج لا يطيق أن يمس فراشه. ورجل تتضخم بذرة الشك في قلبه متى استقرت، ويصعب عليه اقتلاعها دون دليل حاسم.
وها هو ذا يثقل عليه العبء وحده، فيبعث إلى أسامة بن زيد. حبه القريب إلى قلبه.. ويبعث إلى علي ابن أبي طالب. ابن عمه وسنده. يستشيرهما في خاصة أمره. فأما علي فهو من عصب محمد، وهو شديد الحساسية بالموقف لهذا السبب. ثم هو شديد الحساسية بالألم والقلق اللذين يعتصران قلب محمد، ابن عمه وكافله. فهو يشير بأن الله لم يضيق عليه. ويشير مع هذا بالتثبت من الجارية ليطمئن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستقر على قرار. وأما أسامة فيدرك ما بقلب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الود لأهله، والتعب لخاطر الفراق، فيشير بما يعلمه من طهارة أم المؤمنين، وكذب المفترين الأفاكين.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم في لهفة الإنسان، وفي قلق الإنسان، يستمد من حديث أسامة، ومن شهادة الجارية مدداً وقوة يواجه بهما القوم في المسجد، فيستعذر ممن نالوا عرضه، ورموا أهله، ورموا رجلاً من فضلاء المسلمين لا يعلم أحد عليه من سوء.. فيقع بين الأوس والخزرج ما يقع من تناور وهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه السلام وفي حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدل هذا على الجو الذي كان يظلل الجماعة المسلمة في هذه الفترة الغريبة، وقد خدشت قداسة القيادة، ويحز هذا في نفس الرسول صلى الله عليه وسلم والنور الذي أعتاد أن يسعفه لا ينير له الطريق! فإذا هو يذهب إلى عائشة نفسها يصارحها بما يقول الناس؛ ويطلب منها هي البيان الشافي المريح!
وعندما تصل الآلام إلى ذروتها على هذا النحو يتعطف عليه ربه، فيتنزل القرآن ببراءة عائشة الصديقة الطاهرة؛ وبراءة بيت النبوة الطيب الرفيع؛ ويكشف المنافقين الذين حاكوا هذا الإفك، ويرسم الطريق المستقيم للجماعة المسلمة في مواجهة مثل هذا الشأن العظيم.
ولقد قالت عائشة عن هذا القرآن الذي تنزل: «وأنا والله أعلم حينئذ أني بريئة، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي. ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل الله تعالى في شأني وحياً يتلى. ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى. ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله تعالى بها»..
ولكن الأمر كما يبدو من ذلك الاستعراض لم يكن أمر عائشة رضي الله عنها ولا قاصراً على شخصها. فلقد تجاوزها إلى شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ووظيفته في الجماعة يومها. بل تجاوزه إلى صلته بربه ورسالته كلها. وما كان حديث الإفك رمية لعائشة وحدها، إنما كان رمية للعقيدة في شخص نبيها وبانيها.. من أجل ذلك أنزل الله القرآن ليفصل في القضية المبتدعة، ويرد المكيدة المدبرة، ويتولى المعركة الدائرة ضد الإسلام ورسول الإسلام؛ ويكشف عن الحكمة العليا وراء ذلك كله؛ وما يعلمها إلا الله.
{إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم}.
فهم ليسوا فرداً ولا أفراداً؛ إنما هم {عصبة} متجمعة ذات هدف واحد. ولم يكن عبد الله بن أبي بن سلول وحده هو الذي أطلق ذلك الإفك. إنما هو الذي تولى معظمه. وهو يمثل عصبة اليهود أو المنافقين، الذين عجزوا عن حرب الإسلام جهرة؛ فتواروا وراء ستار الإسلام ليكيدوا للإسلام خفية، وكان حديث الإفك إحدى مكائدهم القاتلة. ثم خدع فيها المسلمون فخاض منهم من خاض في حديث الإفك كحمنة بنت جحش؛ وحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة. أما أصل التدبير فكان عند تلك العصبة، وعلى رأسها ابن سلول، الحذر الماكر، الذي لم يظهر بشخصه في المعركة. ولم يقل علانية ما يؤخذ به، فيقاد إلى الحد. إنما كان يهمس به بين ملئه الذين يطمئن إليهم، ولا يشهدون عليه. وكان التدبير من المهارة والخبث بحيث أمكن أن ترجف به المدينة شهراً كاملاً، وأن تتداوله الألسنة في أطهر بيئة وأتقاها!
وقد بدأ السياق ببيان تلك الحقيقة ليكشف عن ضخامة الحادث، وعمق جذوره، وما وراءه من عصبة تكيد للإسلام والمسلمين هذا الكيد الدقيق العميق اللئيم.
ثم سارع بتطمين المسلمين من عاقبة هذا الكيد:
{لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم}..
خير. فهو يكشف عن الكائدين للإسلام في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته. وهو يكشف للجماعة المسلمة عن ضرورة تحريم القذف وأخذ القاذفين بالحد الذي فرضه الله؛ ويبين مدى الأخطار التي تحيق بالجماعة لو أطلقت فيها الألسنة تقذف المحصنات الغافلات المؤمنات. فهي عندئذ لا تقف عند حد. إنما تمضي صعداً إلى أشرف المقامات، وتتطاول إلى أعلى الهامات، وتعدم الجماعة كل وقاية وكل تحرج وكل حياء.
وهو خير أن يكشف الله للجماعة المسلمة بهذه المناسبة عن المنهج القويم في مواجهة مثل هذا الأمر العظيم.
أما الآلام التي عاناها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته، والجماعة المسلمة كلها، فهي ثمن التجربة، وضريبة الابتلاء، الواجبة الأداء!
أما الذين خاضوا في الإفك، فلكل منهم بقدر نصيبه من تلك الخطيئة: {لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم}.. ولكل منهم نصيبه من سوء العاقبة عند الله. وبئس ما اكتسبوه، فهو إثم يعاقبون عليه في حياتهم الدنيا وحياتهم الأخرى: {والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم} يناسب نصيبه من ذلك الجرم العظيم.
والذي تولى كبره، وقاد حملته، واضطلع منه بالنصيب الأوفى، كان هو عبد الله بن أبي بن سلول. رأس النفاق، وحامل لواء الكيد. ولقد عرف كيف يختار مقتلاً، لولا أن الله كان من ورائه محيطاً، وكان لدينه حافظاً، ولرسوله عاصماً، وللجماعة المسلمة راعياً.. ولقد روي أنه لما مر صفوان بن المعطل بهودج أم المؤمنين وابن سلول في ملأ من قومه قال: من هذه؟ فقالوا: عائشة رضي الله عنها.. فقال: والله ما نجت منه ولا نجا منها. وقال: امرأة نبيكم باتت مع رجل حتى أصبحت؛ ثم جاء يقودها!
وهي قولة خبيثة راح يذيعها عن طريق عصبة النفاق بوسائل ملتوية. بلغ من خبثها أن تموج المدينة بالفرية التي لا تصدق، والتي تكذبها القرآئن كلها. وأن تلوكها ألسنة المسلمين غير متحرجين. وأن تصبح موضوع أحاديثهم شهراً كاملاً. وهي الفرية الجديرة بأن تنفى وتستبعد للوهلة الأولى.
وإن الإنسان ليدهش حتى اليوم كيف أمكن أن تروج فرية ساقطة كهذه في جو الجماعة المسلمة حينذاك. وأن تحدث هذه الآثار الضخمة في جسم الجماعة، وتسبب هذه الآلام القاسية لأطهر النفوس وأكبرها على الإطلاق.
لقد كانت معركة خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخاضتها الجماعة المسلمة يومذاك. وخاضها الإسلام. معركة ضخمة لعلها أضخم المعارك التي خاضها رسول الله صلى الله عليه وسلم وخرج منها منتصراً كاظماً لآلامه الكبار، محتفظاً بوقار نفسه وعظمة قلبه وجميل صبره.
فلم تؤثر عنه كلمة واحدة تدل على نفاد صبره وضعف احتماله. والآلام التي تناوشه لعلها أعظم الآلام التي مرت به في حياته. والخطر على الإسلام من تلك الفرية من أشد الأخطار التي تعرض لها في تاريخه.
ولو استشار كل مسلم قلبه يومها لأفتاه؛ ولو عاد إلى منطق الفطرة لهداه. والقرآن الكريم يوجه المسلمين إلى هذا المنهج في مواجهة الأمور، بوصفه أول خطوة في الحكم عليها:
{لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً وقالوا هذا إفك مبين}..
نعم كان هذا هو الأولى.. أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً. وأن يستبعدوا سقوط أنفسهم في مثل هذه الحمأة.. وامرأة نبيهم الطاهرة وأخوهم الصحابي المجاهد هما من أنفسهم، فظن الخير بهما أولى. فإن ما لا يليق بهم لا يليق بزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يليق بصاحبه الذي لم يعلم عنه إلا خيراً.. كذلك فعل أبو أيوب خالد بن زيد الأنصاري وامرأته رضي الله عنهما كما روى الإمام محمد ابن اسحاق: أن أبا أيوب قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟ قال: نعم. وذلك الكذب. أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة والله خير منك.. ونقل الإمام محمود بن عمر الزمخشري في تفسيره: الكشاف أن أبا أيوب الأنصاري قال لأم أيوب: ألا ترين ما يقال؟ فقالت: لو كنت بدل صفوان أكنت تظن بحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم سوءاً؟ قال: لا. قالت: ولو كنت أنا بدل عائشة رضي الله عنها ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعائشة خير مني، وصفوان خير منك..
وكلتا الروايتين تدلان على أن بعض المسلمين رجع إلى نفسه واستفتى قلبه، فاستبعد أن يقع ما نسب إلى عائشة، وما نسب إلى رجل من المسلمين: من معصية لله وخيانة لرسوله، وارتكاس في حمأة الفاحشة، لمجرد شبهة لا تقف للمناقشة!
هذه هي الخطوة الأولى في المنهج الذي يفرضه القرآن لمواجهة الأمور. خطوة الدليل الباطني الوجداني. فأما الخطوة الثانية فهي طلب الدليل الخارجي والبرهان الواقعي:
{لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون}.. وهذه الفرية الضخمة التي تتناول أعلى المقامات، وأطهر الأعراض، ما كان ينبغي أن تمر هكذا سهلة هينة؛ وأن تشيع هكذا دون تثبت ولا بينة؛ وأن تتقاذفها الألسنة وتلوكها الأفواه دون شاهد ولا دليل: {لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء} وهم لم يفعلوا فهم كاذبون إذن.
كاذبون عند الله الذي لا يبدل القول لديه، والذي لا يتغير حكمه، ولا يتبدل قراره. فهي الوصمة الثابتة الصادقة الدائمة التي لا براءة لهم منها، ولا نجاة لهم من عقباها.
هاتان الخطوتان: خطوة عرض الأمر على القلب واستفتاء الضمير. وخطوة التثبيت بالبينة والدليل.. غفل عنهما المؤمنون في حادث الإفك؛ وتركوا الخائضين يخوضون في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أمر عظيم لولا لطف الله لمس الجماعة كلها البلاء العظيم. فالله يحذرهم أن يعودوا لمثله أبداً بعد هذا الدرس الأليم: